... لقد رحل القطار ...ليتها لم تتأخر عنه، جالت عيناها بالمحطة الفارغة ، جوّ كئيب يخيّم على المحطة ، انها تبدو كالمهجورة بعد ان فرغت من المنتظرين.
جرّت قدميها وهي تشعر بالأسى على نفسها ، على عمرها الذي ضاع في العمل وفي الركض بين المحطات وبالقطارات، ولم تشعر بشالها الذي سقط منها وهي غارقة في أفكارها..
وجدت مقعدا منزويا مثلها ،فجلست عليه،وبدأت تتأمل غروب الشمس وتقارنه بغروب حياتها،وتساقطت دمعات حارة ألهبت وجنتيها، اليوم ذكرى مولدها ،اليوم تبلغ الأربعين من عمرها...يا الهي
كيف وصلت الى الأربعين؟ بم انشغلت حتى لم أشعر بمرور السنوات؟
وتذكرت يوم تسلمها شهادة الدكتوراه ،كم سهرت وناضلت حتى نالتها بجدارة وامتياز، تذكرت فرحتها وقتذاك ،والحفل الكبيرالذي ضم أفراد عائلتها ،كم كانت سعيدة وهي تتصور مع أولاد اخوتها، والآن، أما زالت تشعر بهذه السعادة؟
رفضت الزواج ولم تفعل كما فعلت اخواتها ، متعللة بالدراسة والتحصيل ونصرة المرأة، رافضة سجن الزوجية.
والآن؟ كم تتوق لهذا السجن، وللسجان الذي باتت تشعر في كل لحظة بحاجتها اليه، ليت الفرصة تتاح لها مرة ثانية لتتشبث بها كطوق النجاة.
تعلمت وعملت ، صارت مديرة قسم في مؤسسة كبيرة ومشهورة ، الكل يحسب لها حسابا،كلمتها لا تناقش ،ولا ترفض،ولكن اين السعادة؟
ألم يكن هذا ما حلمت به؟لماذا تشعر الآن بالرغبة في الاولاد؟ في زوج تحتمي بظله؟
زوج؟ ألم تكن دائما تضحك من كلام أمها التي كانت تردده دائما "ظل رجل ولا ظل حيطة"
فكانت ترد عليها بأن الزمن تغير ، والمرأة الآن حرة وليست بحاجة الى الرجل، فهي تعمل وتكسب ولديها من مقومات الحياة ما يجعلها تستغني عنه.
ما الذي غيرها؟لماذا الآن تشعر برغبتها الى هذا السجان؟والى بيت وعائلة؟
انها الفطرة السليمة التي تجاهلتها طوال هذه السنين ،وانشغلت عنها بالدراسة والعمل ،هذه الفطرة التي تعود الآن وبقوة في ذكرى عيدها الاربعين، متهمة اياها بمحاولة اغتيالها..
وبينما هي غائبة في أفكارها ، لم تشعر بالقطار وهو يصل ، ولا بأصوات الركاب وهم ينزلون ،كانت في ملكوت آخر ، كله حسرة وألم ،واذ برجل يقترب منها بخطوات واثقة وابتسامة مهذبة ، يمد اليها يده حاملا شالها الذي غفلت عنه ، اخذته منه بيد مرتجفة ، وشكرته بشفتين مرتبكتين خوفا من أن يكون قد رأى دمعاتها وأسرعت
محاولة الهرب من أمامه كيلا يقرأ أفكارها .
وبعد أيام، اذ بأخيها يتصل بها ويعلمها بأن شابا تقدّم لطلب يدها، وانه سيزورها في المساء.
ها هي الفرصة أتيحت لك مرة أخرى فلا تضيعيها ، من هو يا ترى؟ ولماذا هي بعد هذا العمر ؟شاب في سن الثالثة والاربعين كما ذكر لها أخوها ،لماذا يختارها هي وأمامه الفتيات الصغيرات؟
ماذا يعمل؟لا يهمها عمله ،ويكفيها ما أضاعته من السنوات، أجامعيّ ومثقّف هو أم لا يحمل أيّ شهادات؟
وماذا يهمّ؟ هي لن تتزوج شهاداته ومركزه، الوحدة والزمن علماها أن الاسرة هي أهم شيء في الحياة،ويكفيها ما أضاعت من السنوات.
ما كانت لتظن أن الدنيا ستبتسم لها من جديد، هي تعرف انها ما زالت جميلة وذات علم وثقافة ، إلا أن الكثير من الشباب الشرقيين لا يهتمون بكل هذا، والأهم عندهم العمر...آه من العمر...
ما لها ولهذه الأفكار الآن ، الحمد لله أن هناك من لا يفكر كما يفكر الآخرين ، ولأجل هذا فعليها أن تكافئه بقبولها له دون النظر الى مستوى علمه وماله..
وانتظرت المساء على أحر من الجمر ، ما لهذا الوقت يمشي كالسلحفاة ؟ ليت الساعات تمضي كالدقائق ، لتقابله وتراه.
دقات قلبها المسرعة ذكرتها بآخر عريس قرع بابها، كان من عشر سنوات خلت ،وتذكرت كيف رفضت شروطه،وكيف أملت عليه شروطها، أصرت على العمل وأصر على التفرغ له ولبيتها، كم كان شابا طيبا ووسيما، الا ان رغبته الشديدة بالاقتران بها لم تشفع له عندها ، ورفضته متعللة برجعيته وبعدم احترامه لحرية المرأة، كم كانت مغفلة ،أين هو الآن؟
لا بد أنه تزوج ، فمثله لا يرفض، لو سمعت كلام امها يومذاك لكانت الآن زوجة وأما.
لكن ما نفع التحسر والندم، والذي حصل قد حصل ، وبعده ،أغلقت بابها أمام عدد ليس بقليل من الخاطبين ، ولما قررت فتح الباب لم تجد أحدا.
عليها أن تنسى كل هذا ، ولتصرف فكرها على المتقدم الجديد ، فبعد قليل سيأتي ،عليها أن تتنازل عن طلباتها القديمة ، وعليها القبول بالموجود، فقد تكون هذه آخر فرصة لها .
دقّ الباب ودقّ معه القلب، أسرعت تفتحه ، تسمّرت أمام الباب وهي تنظر إلى الرجل الطويل الذي يحمل باقة من الورد ، الى ابتسامته الهادئة المهذّبة ،انها تتذكر هذه الابتسامة ، انها نفس الابتسامة التي رأتها على وجه الرجل في المحطة ، لم تر يومها منه الا ابتسامته، دموعها وذكراياتها منعاها من التفرس في وجهه، لكنها رأت الابتسامة ، تلك الابتسامة التي ذكّرتها بانسان عرفته ، ذكرتها بالشاب الذي تقدم اليها سابقا ورفضته ،وها هي تراه الآن واقفا أمامها.
ذهولها جعل ابتسامته تزداد اتساعا، قدّم لها الورود ،هذه الورود التي قدّم لها مثلها زمانا، أيعقل أنه هو المتقدّم لها؟
لا بدّ أنّ في الأمر التباسا، ما بها؟
سمعت صوته وكأنه آت من عالم آخر وهو يقول لها ، بعد رفضك لي انشغلت بالدراسة والعمل ،وزهدت عن الزواج ، ولم يخطر ببالي ذلك إلا حينما رأيتك صدفة في محطة القطار، هل سترفضينني هذه المرة أيضا؟ فأنا ما زلت رغم حصولي على الدكتوراه وعملي كأستاذ في الجامعة ، ما زلت رجعيا و أريدك ملكة لبيتي ، وشريكة لحياتي ، معززة مكرمة.
ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة تشي بقبولها لعرضه ، ابتسامتها افرحته ، الا انه أراد أن يسمع منها التصريح بالموافقة،فقال متسائلا: هل سيأتي عليك يوم تقولين لي شهاداتي ودراستي،وحق المرأة بالعمل؟
ضحكت وقالت :لا، ولكن سأكون زوجة وأمّا متعلمة ومثقفة ، نتناقش معا وتفخر بي أمام أهلك وأصحابك.